فصل: قال البغوى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} يقول: إنّ من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم؛ لخروج الماء منها وتردّيها.
قال مجاهد: ما تردّى حجر من رأس جبل، ولا تفجّر نهر من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله؛ نزل بذلك القرآن الكريم.
ومثله عن ابن جُرَيج.
وقال بعض المتكلمين في قوله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله}: البَرَد الهابط من السحاب.
وقيل: لفظة الهبوط مجاز؛ وذلك أن الحجارة لما كانت القلوب تعتبر بخلقها، وتخشع بالنظر إليها، أضيف تواضع الناظر إليها؛ كما قالت العرب: ناقة تاجرة؛ أي تبعث من يراها على شرائها.
وحكى الطبريّ عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة؛ كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله: {يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} [الكهف: 77]، وكما قال زيد الخيل:
لما أتى خبر الزبير تواضعت ** سورُ المدينة والجبالُ الخُشَّعُ

وذكر ابن بحر أن الضمير في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا} راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة؛ أي من القلوب لما يخضع من خشية الله.
قلت: كل ما قيل يحتمله اللفظ، والأوّل صحيح؛ فإنه لا يمتنع أن يعطى بعض الجمادات المعرفة فيعقل، كالذي رُوِيَ عن الجِذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فلما تحوّل عنه حنّ؛ وثبت عنه أنه قال: «إن حجرًا كان يسلّم عليّ في الجاهلية إني لأعرفه الآن» وكما روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «قال لي ثَبِير اهبط فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله» فناداه حراء: إليّ يا رسول الله.
وفي التنزيل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال} [الأحزاب: 72] الآية.
وقال: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ الله} [الحشر: 21] يعني تذلُّلًا وخضوعًا. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} فالمعنى أن الله تعالى بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم محصي لها فهو يجازيهم بها في الدنيا والآخرة وهو كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] وفي هذا وعيد لهم وتخويف كبير لينزجروا.
فإن قيل: هل يصح أن يوصف الله بأنه ليس بغافل؟ قلنا: قال القاضي: لا يصح لأنه يوهم جواز الغفلة عليه وليس الأمر كذلك لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها عليه، بدليل قوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255] {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] والله أعلم. اهـ.

.قال في البحر المديد:

قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَ يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} [البَقَرَة: 74] كذلك القلوب القاسية إذا لانت بالإنابة إلى ربها، والرجوع عن مألوفاتها، تتفجر منها أنهار العلوم، وتشقق منها أسرار الحِكَم، ومنها من تذوب من هيبة المتجلي لها، فتندك جبالها، وتزلزل أرض نفوسها، كما قال القائل:
لَو عَايَنتْ عَينَاكَ يومَ تزلزلتْ ** أَرضْ النفُوس ودُكَّتِ الأجْبَالُ

لَرأَيتَ شَمسَ الحقِّ يسطعُ نورُها ** حِينَ التزَلْزلِ، والرجَالُ رجالُ

والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال البغوى:

قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} يبست وجفت، جفاف القلب: خروج الرحمة واللين عنه، وقيل: غلظت، وقيل: اسودت، {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} بعد ظهور الدلالات. قال الكلبي: قالوا بعد ذلك: نحن لم نقتله، فلم يكونوا قط أعمى قلبا ولا أشد تكذيبا لنبيهم منهم عند ذلك {فهي} أي في الغلظة والشدة {كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} قيل: أو بمعنى بل وقيل: بمعنى الواو كقوله تعالى: {مائة ألف أو يزيدون} [147- الصافات] أي: بل يزيدون أو ويزيدون، وإنما لم يشبهها بالحديد مع أنه أصلب من الحجارة، لأن الحديد قابل للين فإنه يلين بالنار، وقد لان لداود عليه السلام، والحجارة لا تلين قط، ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ} قيل: أراد به جميع الحجارة، وقيل: أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى للأسباط {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء} أراد به عيونا دون الأنهار {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وقلوبكم لا تلين ولا تخشع يا معشر اليهود. فإن قيل: الحجر جماد لا يفهم، فكيف يخشى؟
قيل: الله يفهمه ويلهمه فيخشى بإلهامه.
ومذهب أهل السنة والجماعة أن لله تعالى علما في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقل، لا يقف عليه غيره، فلها صلاة وتسبيح وخشية كما قال جل ذكره: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [44- الإسراء] وقال: {والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه} [41- النور] وقال: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر} [18- الحج] الآية، فيجب على المؤمن الإيمان به ويكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلبونه فقال الجبل: انزل عني فإني أخاف أن تؤخذ علي فيعاقبني الله بذلك فقال له جبل حراء: إلي يا رسول الله.
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ثنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي أنا أحمد بن محمد بن عبد الوهاب النيسابوري أنا محمد بن إسماعيل الصائغ أنا يحيى بن أبي بكر أنا إبراهيم بن طهمان عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن» هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن أبي بكر. وصح عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع على أحد فقال: «هذا جبل يحبنا ونحبه» وروي عن أبي هريرة يقول، صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ثم أقبل على الناس بوجهه وقال: «بينما رجل يسوق بقرة إذ عيي فركبها فضربها فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا لحراثة الأرض» فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم!؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإني أومن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم» وقال: «بينما رجل في غنم له إذ عدا الذئب على شاة منها فأدركها صاحبها فاستنقذها، فقال الذئب: فمن لها يوم السبع؟ أي يوم القيامة، يوم لا راعي لها غيري» فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم؟ فقال: «أومن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم»، وصح عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اهدأ-أي: اسكن- فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد». صحيح أخرجه مسلم.
أنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو سعيد يحيى بن أحمد بن علي الصانع أنا أبو الحسن علي بن إسحاق بن هشام الرازي أنا محمد بن أيوب بن ضريس البجلي الرازي أنا محمد بن الصباح عن الوليد بن أبي ثور عن السدي عن عبادة بن أبي يزيد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في نواحيها خارجا من مكة بين الجبال والشجر، فلم يمر بشجرة ولا جبل إلا قال السلام عليك يا رسول الله.
أنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صنع له المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية وحنت كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد، حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها فسكنت.
قال مجاهد: لا ينزل حجر من أعلى إلى الأسفل إلا من خشية الله، ويشهد لما قلنا قوله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} [21- الحشر]. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة البقرة: الآيات 67- 73]:

{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}.
كان في بنى إسرائيل شيخ موسر فقتل ابنه بنو أخيه ليرثوه، وطرحوه على باب مدينة ثم جاءوا يطالبون بديته، فأمرهم اللَّه أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبرهم بقاتله {قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُوًا} أتجعلنا مكان هزو، أو أهل هزو، أو مهزوا بنا، أو الهزو نفسه لفرط الاستهزاء مِنَ الْجاهِلِينَ لأن الهزو في مثل هذا من باب الجهل والسفه. وقرئ {هزؤا} بضمتين. {وهزءًا} بسكون الزاى، نحو كفؤا وكفؤا.
وقرأ حفص {هزوا} بالضمتين والواو وكذلك {كفوا}. والعياذ واللياذ من واد واحد.
في قراءة عبد اللَّه: سل لنا ربك ما هي؟ سؤال عن حالها وصفتها. وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا، فسألوا عن صفة تلك البقرة المجيبة الشأن الخارجة عما عليه البقر. والفارض: المسنة، وقد فرضت فروضا فهي فارض. قال خفاف بن ندبة:
لَعَمْرِى لَقَدْ أَعْطَيْتُ ضَيْفَكَ فَارِضًا ** تُسَاقُ إلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ

وكأنها سميت فارضا لأنها فرضت سنها أى قطعتها وبلغت آخرها. والبكر: الفتية.
والعوان النصف. قال:
نَوَاعِمُ بَيْنَ أَبْكَارٍ وَعُونِ

وقد عوّنت. فإن قلت: بين يقتضى شيئين فصاعدا فمن أين جاز دخوله على ذلك: قلت لأنه في معنى شيئين حيث وقع مشارا به إلى ما ذكر من الفارض والبكر. فإن قلت:
كيف جاز أن يشار به إلى مؤنثين، وإنما هو للإشارة إلى واحد مذكر؟ قلت: جاز ذلك على تأويل ما ذكر وما تقدّم، للاختصار في الكلام، كما جعلوا فعل نائبا عن أفعال جمة تذكر قبله: تقول للرجل: نعم ما فعلت، وقد ذكر لك أفعالا كثيرة وقصة طويلة، كما تقول له:
ما أحسن ذلك. وقد يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا. قال أبو عبيدة قلت لرؤبة في قوله:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ** كَأَنَّهُ في الْجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ

إن أردت الخطوط فقل: كأنها. وإن أردت السواد والبلق فقل: كأنهما. فقال: أردت كأن ذاك، ويلك! والذي حسن منه أنّ أسماء الإشارة تثنيتها وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة وكذلك الموصولات. ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع {ما تُؤْمَرُونَ} أى ما تؤمرونه بمعنى تؤمرون به من قوله أمرتك الخير أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول به بالمصدر، كضرب الأمير.
الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه. يقال في التوكيد: أصفر فاقع ووارس، كما يقال أسود حالك وحانك، وأبيض يقق ولهق. وأحمر قانى وذريخى. وأخضر ناضر ومدهامّ. وأورق خطبانيّ وأزمك ردانيّ.
فإن قلت: فاقع هاهنا واقع خبرا عن اللون، فلم يقع توكيدًا لصفراء قلت: لم يقع خبرا عن اللون إنما وقع توكيدًا لصفراء، إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل واللون من سببها وملتبس بها، فلم يكن فرق بين قولك صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها. فإن قلت: فهلا قيل صفراء فاقعة؟ وأى فائدة في ذكر اللون؟ قلت: الفائدة فيه التوكيد، لأنّ اللون اسم للهيئة وهي الصفرة، فكأنه قيل: شديدة الصفرة صفرتها، فهو من قولك: جدّ جدّه، وجنونك مجنون. وعن وهب: إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه. وعن على رضى اللَّه عنه: من لبس نعلا صفراء قل همه لقوله تعالى: {تسرّ الناظرين} وعن الحسن البصري {صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها} سوداء شديدة السواد. ولعله مستعار من صفة الإبل لأن سوادها تعلوه صفرة. وبه فسر قوله تعالى: {جِمالَتٌ صُفْرٌ}. قال الأعشى:
تِلْكَ خَيْلِى مِنْهُ وَتِلْكَ رِكَابِى ** هُنَّ صُفْرٌ أَوْلَادُهَا كَالزَّبِيبِ

كانت العرب تزعم أن عظام رأس القتيل تصير بومة وتصبح: أدركونى. حتى يؤخذ بثأره. وشعوب: اسم للمنية، ويمكن أنه جمع شعب بمعنى طريق، أى أمست متفرقة في الطرق. وذلك كناية عن قتله. والجمع للتعظيم، أو اعتباري. والجموم: جمع جم بتثليث أوله بمعنى الكثير. والنجيب: الكريم من الخيل والإبل. والركاب: المطايا. هن أى الركاب، صفر: جمع أصفر أو صفراء، أولادها يغلب عليها السواد كالزبيب. والمراد بالصفرة سواد ترهقه صفرة، لأن هذا أعز ألوان الإبل عندهم.
ما هِيَ مرة ثانية تكرير للسؤال عن حالها وصفتها، واستشكاف زائد ليزدادوا بيانا لوصفها. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم، ولكن شدّدوا فشدّد اللَّه عليهم» والاستقصاء شؤم. وعن بعض الخلفاء أنه كتب إلى عامله بأن يذهب إلى قوم فيقطع أشجارهم ويهدم دورهم، فكتب إليه: بأيهما أبدًا؟ فقال: إن قلت لك بقطع الشجر سألتنى:
بأى نوع منها أبدأ؟ وعن عمر بن عبد العزيز: إذا أمرتك أن تعطى فلانا شاة سألتنى: أضائن أم ماعز؟ فإن بينت لك قلت: أذكر أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت: أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيء فلا تراجعني. وفي الحديث: «أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لأجل مسألته».
{إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا} أى إنّ البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا أيها نذبح. وقرئ: {تشابه}، بمعنى تتشابه بطرح التاء وإدغامها في الشين. وتشابهت ومتشابهة ومتشابه. وقرأ محمد ذو الشامة: إن الباقر يشابه، بالياء والتشديد. جاء في الحديث: «لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد» أى: لو لم يقولوا إن شاء اللَّه. والمعنى: إنا لمهتدون إلى البقرة المراد ذبحها، أو إلى ما خفى علينا من أمر القاتل.
{لا ذَلُولٌ} صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول، يعنى لم تذلل للكراب وإثارة الأرض، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقى الحروث، و{لا} الأولى للنفي، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى، لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقى. على أنّ الفعلين صفتان لذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى: لا ذلول، بمعنى لا ذلول هناك: أى حيث هي، وهو نفى لذلها ولأن توصف به فيقال: هي ذلول. ونحوه قولك: مررت بقوم لا بخيل ولا جبان. أى فيهم، أو حيث هم.
وقرئ: {تسقى} بضم التاء من أسقى.
{مُسَلَّمَةٌ} سلمها اللَّه من العيوب أو معفاة من العمل سلمها أهلها منه كقوله:
أَوْ مَعْبَرَ الظَّهْرِ يُنْبِى عَنْ وَلِيَّتِهِ ** مَا حَجَّ رَبُهُ في الدُّنْيَا وَلَا اعْتَمَرَا

أو مخلصة اللون، من سلم له كذا إذا خلص له، لم يشب صفرتها شيء من الألوان لا شِيَةَ فِيها لا لمعة في نقبتها من لون آخر سوى الصفرة، فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها. وهي في الأصل مصدر وشاه وشيا وشية، إذا خلط بلونه لونا آخر، ومنه ثور موشى القوائم.
{جِئْتَ بِالْحَقِّ} أى بحقيقة وصف البقرة، وما بقي إشكال في أمرها {فَذَبَحُوها} أى فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها.
وقوله: {وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} استثقال لاستقصائهم واستبطاء لهم، وأنهم لتطويلهم المفرط وكثرة استكشافهم، ما كادوا يذبحونها، وما كادت تنتهي سؤالاتهم، وما كاد ينقطع خيط إسهابهم فيها وتعمقهم. وقيل: وما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها. وقيل: لخوف الفضيحة في ظهور القاتل.
وروى أنه كان في بنى إسرائيل شيخ صالح له عجِلة فأتى بها الغيضة وقال: اللهم إنى أستودعكها لابنى حتى يكبر، وكان برًا بوالديه، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه، فساوموها اليتيم وأمّه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبًا، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة. فإن قلت: كانت البقرة التي تناولها الأمر بقرة من شق البقر غير مخصوصة، ثم انقلبت مخصوصة بلون وصفات، فذبحوا المخصوصة، فما فعل الأمر الأوّل؟ قلت: رجع منسوخا لانتقال الحكم إلى البقرة المخصوصة، والنسخ قبل الفعل جائز. على أنّ الخطاب كان لإبهامه متناولا لهذه البقرة الموصوفة كما تناول غيرها.
ولو وقع الذبح عليها بحكم الخطاب قبل التخصيص لكان امتثالا له، فكذلك إذا وقع عليها بعد التخصيص {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم {فَادَّارَأْتُمْ} فاختلفتم واختصمتم في شأنها، لأنّ المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضًا، أى يدفعه ويزحمه. أو تدافعتم، بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض، فدفع المطروح عليه الطارح. أو لأنّ الطرح في نفسه دفع. أو دفع بعضكم بعضًا عن البراءة واتهمه {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل لا يتركه مكتومًا. فإن قلت: كيف أعمل مخرج وهو في معنى المضيّ؟
قلت: وقد حكى ما كان مستقبلا في وقت التدارؤ. كما حكى الحاضر في قوله: {باسِطٌ ذِراعَيْهِ} وهذه الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما {فَادَّارَأْتُمْ} و{فَقُلْنا}.
والضمير في {اضْرِبُوهُ} إمّا أن يرجع إلى النفس والتذكير على تأويل الشخص والإنسان، وإمّا إلى القتيل لما دل عليه من قوله: {ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}. بِبَعْضِها ببعض البقرة. واختلف في البعض الذي ضرب به، فقيل: لسانها، وقيل: فخذها اليمنى، وقيل: عجبها، وقيل: العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل الأذن، وقيل: الأذن، وقيل: البضعة بين الكتفين. والمعنى:
فضربوه فحيى، فحذف ذلك لدلالة قوله: {كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى}.
وروى أنهم لما ضربوه قام بإذن اللَّه وأوداجه تشخب دمًا وقال: قتلني فلان وفلان لا بنى عمه، ثم سقط ميتًا، فأخذا وقتلا ولم يورّث قاتل بعد ذلك.
{كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى} إما أن يكون خطابا للذين حضروا حياة القتيل بمعنى وقلنا لهم: كذلك يحيى اللَّه الموتى يوم القيامة {وَيُرِيكُمْ آياتِهِ} ودلائله على أنه قادر على كل شيء {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} تعملون على قضية عقولكم. وأن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص حتى لا تنكروا البعث. وإما أن يكون خطابا للمنكرين في زمن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فإن قلت: هلا أحياه ابتداء؟ ولم شرط في إحيائه ذبح البقرة وضربه ببعضها؟ قلت: في الأسباب والشروط حكم وفوائد. وإنما شرط ذلك لما في ذبح البقرة من التقرّب وأداء التكاليف واكتساب الثواب والإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب، وما في التشديد عليهم لتشديدهم من اللطف لهم، ولآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر اللَّه تعالى وارتسامها على الفور، من غير تفتيش وتكثير سؤال، ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة، والدلالة على بركة البرّ بالوالدين، والشفقة على الأولاد، وتجهيل الهازئ بما لا يعلم كنهه ولا يطلع على حقيقته من كلام الحكماء، وبيان أنّ من حق المتقرّب إلى ربه أن يتنوّق في اختيار ما يتقرب به، وأن يختاره فتيّ السنّ غير قحم ولا ضرع، حسن اللون بريا من العيوب يونق من ينظر إليه، وأن يغالى بثمنه، كما يروى عن عمر رضى اللَّه عنه أنه ضحى بنجيبة بثلاثمائة دينار، وأنّ الزيادة في الخطاب نسخ له، وأن النسخ قبل الفعل جائز وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البداء، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه أن المؤثر هو المسبب لا الأسباب، لأن الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل أن تتولد منهما حياة. فإن قلت: فما للقصة لم تقص على ترتيبها، وكان حقها أن يقدّم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها، وأن يقال: وإذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها؟ قلت: كل ما قص من قصص بنى إسرائيل إنما قص تعديدًا لما وجد منهم من الجنايات، وتقريعا لهم عليها، ولما جدّد فيهم من الآيات العظام. وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك. والثانية للتقريع على قتل النفس المحرّمة وما يتبعه من الآية العظيمة.
وإنما قدّمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة، ولذهب الغرض في تثنية التقريع. ولقد روعيت نكتة بعد ما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى، دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها}.
حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها، وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة.